مسعر حرب أبو بصير رضي الله عنه
هو عتبة بن أسيد بن جارية بن أسيد بن عبد الله بن سلمة بن عبد الله
بن غيرة بن عوف بن ثقيف ، وقيل هو عبيد بن أسيد بن جارية ، وهو
حليف بني زهر .
صلح الحديبية
جلس النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه يحدثهم عن البيت الحرام وفضلِ
العمرة والإحرام ، فطارت أفئدتهم شوقا إلى ذاك المقام ، فأمرهم بالتجهز للرحيل
إليه وحثهم على التسابق عليه ، فما لبثوا أن تجهزوا وحملوا سلاحهم وتحرزوا
فخرج صلى الله عليه وسلم مع ألف وأربعمائة من أصحابه ، وتوجه إلى مكة حتى
نزل بالحديبية قريبا من مكة ، فتسامع به كفار قريش فخرج إليه كبارهم ليردوه
عن مكة ، فأبى إلا أن يدخلها معتمرا فما زالت البعوث بينه وبين قريش حتى أقبل
عليه سهيل بن عمرو ، فصالح النبي صلى الله عليه وسلم على أن يعودوا إلى
المدينة ويعتمروا في العام القادم ، ثم كتبوا بينهم صلحا عاما وفيه :
( أنه لا يخرج من مكة مسلم مستضعف يريد المدينة إلا رُد إلى مكة ، أما من
خرج من المدينة وجاء إلى مكة مرتدا إلى الكفر فيُقبل في مكة )
فكان في حقيقته وباطنه رحمة للمؤمنين الموحدين ، وظاهره ظلم وتعد على
المستضعفين الذين حيل بينهم وبين الهجرة إلى المدينة .
إسلامه
عندما رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة اشتد العذاب على الضعفاء
في مكة حتى لم يطيقوا له احتمالا و استطاع أبو بصير رضي الله عنه أن
يهرب من حبسه فمضى من ساعته إلى المدينة يحمله الشوق ويحدوه الأمل
في صحبة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه .
مضى يطوي قفار الصحراء ، وتحترق قدماه على الرمضاء حتى وصل المدينة
فتوجه إلى مسجدها ، فبينما النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد مع أصحابه
إذ دخل عليهم أبو بصير رضي الله عنه عليه أثر العذاب ووعثاءُ السفر وهو
أشعث أغبر .
مسعر حرب
ما كاد أبو بصير رضي الله يلتقط أنفاسه حتى أقبل رجلان من كفار قريش فدخلا
المسجد فلما رآهما أبو بصير رضي الله فزع واضطرب ، وعادت إليه صورة
العذاب ، فإذا هما يصيحان :
يا محمد رده إلينا بالعهدُ الذي جعلت لنا
فتذكر النبي صلى الله عليه وسلم عهده لقريش أن يرد إليهم من يأتيه من مكة
فدعا أبا بصير فقال له :
" يا أبا بصير ، إن هؤلاء القوم قد صالحونا على ما قد عملت ، وإنا لا نغدر،
فالحق بقومك "
فقال رضي الله عنه : يا رسول الله ، تردني إلى المشركين يفتنوني في ديني ?
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
" اصبر يا أبا بصير واحتسب لك ولمن معك من المستضعفين من المؤمنين
فرجا ومخرجا "
فخرج معهما أبو بصير رضي الله عنه فلما جاوزا المدينة نزلا لطعام ، وجلس
أحدهما عند أبي بصير رضي الله عنه وغاب الآخر ليقضي حاجته ..
فأخرج القاعد عند أبي بصير رضي الله عنه سيفه ثم أخذ يهزه ويقول مستهزءا
بأبي بصير رضي الله عنه :
لأضربن بسيفي هذا في الأوس والخزرج يوما إلى الليل ..
فقال له أبو بصير رضي الله عنه :
والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيدا
فقال : أجل والله إنه لجيد لقد جربت به .. ثم جربت ..
فقال أبو بصير رضي الله عنه : أرني أنظر إليه ..
فناوله إياه .. فما كاد السيف يستقر في يده .. حتى رفعه ثم هوى به على رقبة
الرجل فأطار رأسه .. فلما رجع الآخر من حاجته ..
رأى جسد صاحبه ممزقا مجندلا .. ففزع .. وفر حتى أتى المدينة ..
فدخل المسجد يعدو .. فلما رآه صلى الله عليه وسلم مقبلا .. فزعا ..
قال : " لقد رأى هذا ذعرا "
فلما وقف بين يديه صلى الله عليه وسلم صاح من شدة الفزع قائلا :
قُتل والله صاحبي .. وإني لمقتول ..
فلم يلبث أن دخل عليهم أبو بصير رضي الله عنه تلتمع عيناه شررا
والسيف في يده يقطر دما فقال :
يا نبي الله .. قد أوفى الله ذمتك .. قد رددتني إليهم ثم أنجاني الله
منهم .. فضمني إليكم ..
قال صلى الله عليه وسلم : " لا "
فصاح أبو بصير رضي الله عنه بأعلى صوته :
يا رسول الله .. أعطني رجالا أفتح لك مكة ..
فالتفت صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وقال :
" ويل أمه مسعر حرب لو كان معه رجال "
ثم تذكر عهده مع قريش فأمر أبا بصير رضي الله عنه بالخروج من المدينة
فسمع أبو بصير رضي الله عنه وأطاع ..
وما حمل في نفسه على الدين .. ولا انقلب عدوا للمسلمين
فهو يرجو ما عند الحليم الكريم .. من الثواب العظيم .. الذي من أجله ترك أهله
وفارق ولده .. وأتعب نفسه .. وعذب جسده ..
أول من سن العمليات الجهادية
كان أبوبصير وأبوجندل رضي الله عنهما أول من سن حرب المقاومة
والعصابات في الإسلام فقد فهم أبو بصير من حديث رسول الله صلى الله
عليه وسلم أنه يريد منه أن يشكل مجموعة تقوم بعمليات جهادية ضد المشركين
فخرج من المدينة واحتار أين يذهب .. ففي مكة عذاب وقيود ..
وفي المدينة مواثيق وعهود .. فمضى إلى سيف البحر في شمال جدة ..
فنزل هناك في صحراء قاحلة لا أنيس فيها ولا جليس ..
فتسامع به المسلمون المستضعفون بمكة فعلموا أنه باب فرج انفتح لهم ،
فالمسلمون في المدينة لا يقبلونهم والكفار في مكة يعذبونهم ..
فتفلت أبو جندل رضي الله عنه من قيوده ولحق بأبي بصير رضي الله
عنه ثم جعل المسلمون يتوافدون إليه في مكانه .. حتى كثر عددهم ..
واشتدت قوتهم ..فجعلت لا تمر بهم قافلة تجارة لقريش .. إلا اعترضوا لها ..
فلما كثر ذلك على قريش .. أرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم يناشدونه
بالله أن يضمهم إليه ..
فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم أن يأتوا المدينة ..
وفاته
لما وصل إليهم الكتاب .. استبشروا وفرحوا ..
لكن أبا بصير كان قد ألم به مرض الموت .. وهو يردد قائلا :
ربي العلي الأكبر من ينصر الله فسوف ينصر .
فلما دخلوا عليه وأخبروه أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لهم بسكنى المدينة
وأن غربتهم انتهت .. وحاجتهم قضيت .. ونفوسهم أمنت .
استبشر أبو بصير رضي الله عنه ثم قال وهو يصارع الموت :
أروني كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ..
فناولوه إياه .. فأخذه فقبله .. ثم جعله على صدره .. وقال :
أشهد أن لا إله إلا الله .. وأشهد أن محمدا رسول الله .. أشهد أن لا إله إلا الله ..
وأشهد أن محمداً رسول الله .. ثم شهق ومات ..
نعم .. مات أبو بصير رضي الله عنه.. ولم يذق من لذة الدنيا شيئا ..
مات .. وهو قد خدم الدين .. وجاهد لرب العالمين ..
مات .. لكنه استراح من عناء هذه الدار .. ويرجى أن يكون في دار القرار ..
ينظر فيها إلى وجه رب الأرض والسماء .. الذي سفك من أجله الدماء ..
ومات مشردا في الصحراء ..
ولإن غُلقت دونه أبواب الأرض .. فلعله فتحت له أبواب السماء ..